لا أعرف لماذا لايجيد الحكام العرب فهم شعوبهم! أو بالأدق لماذا يصموا الآذان سماع صيحات غضبهم .. يتجاهلونها ..لاتثير قلقهم ..لاتفزعهم .لاتحرك فيهم ساكنا، كأنهم على يقين أن تحرك الشعوب لايزيد عن كونه فقاعة هواء ماتلبث ان تتلاشى دون أثر. يأخذهم الغرور الأعمى لأقصى درجات الثقة.. فلايتوقفون كثيرا عند مشهد الحشود الغاضبة.. ولاينصتون لصيحاتها الهادرة.. يتابعونها بنصف اهتمام وبنصف تركيز، وبدون أدنى إحساس بالخوف.. يدركون أن قبضتهم الحديدية لن تسمح إلا بتمرد محسوب ومحكم السيطرة عليه.. أو ربما لاتفزعهم صيحات غضب، لن تخرج فى تقديرهم عن نوبات تنفيس لشحنة زادت عن حد الإحتمال، فتركوا لها مجالا للانطلاق محددا ومحسوبا، ماتلبث بعده أن تخرج عصا أنظمتهم لتكبحه، وترده لطريق الخنوع. هكذا دائما يكون تصورهم الخاطئ وتأتى حساباتهم غير الدقيقة. وتفاجئهم ثورة احتجاج يزداد هديرها، ويعلو سقف مطالبها لتطيح برؤوسهم غير مأسوف عليهم.
الغريب أن تكرار السيناريو لايردع أحدا من هؤلاء الحكام، ولايدفع أى منهم لتجنب غضب شعبه، وكأنه على يقين بأن قوته وإحكام قبضته وسيطرته لن تسمح بمجرد التفكير فى الخروج عليه والمطالبة برحيله.
غرور أم غباء أم كلاهما.. الأرجح أنه غرور غبى أو غباء الغرور هو ما يدفعهم لنفس النهاية.. تصيبهم ثورة الغضب بالدهشة.. تتوقف عقولهم عن التفكير.. فتندفع الهتافات لتمحو غشاوتهم الرافضة للتصديق.
إرحل يعنى إمشى.. انفجرت الحناجر المصرية بها فى ثورة يناير، ساخرة كأنها تشرح لمبارك بما يتناسب مع ضيق أفقه وتصلب عقله.. ثمانية عشر يوما حتى اقتنع، أو بالأدق أجبر على الإقتناع، بأن ثورة الشعب لن تتوقف حتى يعلن رحيله.
تكرر السناريو فى اليمن وليبيا، بشكل أكثر دموية، ثم جاءت ثورة الشعب الجزائرى الذى احتاج رئيسه لأكثر من أربعين يوماـ حتى يفهم، مقاصد شعبه "إرحل".
هل ظن عمر البشير أن العقود المستبدة، التى حكم فيها السودان بالحديد والنار، ستنجيه من نفس المصير! من المؤكد أن ثقته كانت أكبر، ويقينه كان اقوى وسيطرته كانت أشرس، وإلا كيف صم الآذان عن الإحتجاجات التى إستمرت طيلة أربعة اشهر. ولم يعر لصرخات المتظاهرين التى طالبت بتحسين أحوالها الإقتصادية، ولما قوبلت بإستهانة وتجاهل رفعت سقف مطالبها لتصل إلى الإصرار على رحيل الرئيس.
رحل البشير مثلما رحل غيره.. ليبدأ السودان فصلا جديدا من سيناريو، مازال تكراره يمر متتابعا متنقلا من بلد عربى لأخر.. تختلف التفاصيل قليلا لكنها تحمل نفس النهايات المتأرجحة بين حلم بنجاح الثورة فى تحقيق أهدافها، وواقع معاكس تطل فيها قوى الثورة المضادة بشكل أو بآخر، لتعلن وجودها المستفز وتصدرها للمشهد، ولعبها فى كواليسه، ليل الصراع محتدم وتظل الثورة مستمرة.. تخبو أحيانا حد التلاشى، وتبرق أحيانا ويتراقص لهيبها بين التوهج والخفوت، لكنها فى كل الأحوال تعافر لتستمر.
ثورة السودان الأحدث فى ربيعنا العربى الثانى مازالت شعلتها متوهجة.. لم تنطل على شعبها لعبة إسقاط رأس النظام بغية الحفاظ على جسده، فلم يقنعها الإعلان عن عزل الرئيس ووضعه تحت الإقامة الجبرية، ولم تترك الشوارع والميادين بعد البيان الذى ألقاه وزير الدفاع الفريق أول عوض بن عوف، والذى أعلن فيه تشكيل مجلس عسكرى لإدارة شئون البلاد لفترة إنتقالية مدتها عامين.. وحل مجلس الوزراء وحل حكومات الولايات وحل مؤسسة الرئاسة، إضافة إلى إعلان حالة الطوارئ لمدة ثلاثة أشهر وحظر التجوال لمدة ثلاثة أشهر.
لم يلب بيان الجيش مطالب الشعب الغاضب، بل على العكس جاء إعلان حالة الطوارئ وحظر التجول ليزيد من حدة غضبه.. رآه التفافا على ثورته وتحايلا عليها، فكيف يقبل شعب تقييد حريته بعد ثورة لم يقم بها إلا لانتزاع تلك الحرية المهدرة.
يسقط تاني.. هكذا هتف السودانيون مؤكدين على استمرار ثورتهم حتى يتحقق هدفهم بإسقاط النظام كله وليس رأسه فقط.. وهو ماعبر عنه بيان تجمع المهنيين أحد أبرز القوى الثورية، مؤكدا أن لاشيء سيوقف المد الثوري، وأن الشعب سيكسر حظر التجوال، ولايمكن لأى قوى أن تعتقل شعبا كاملا يرفض الطواريء ويكسر حظر التجوال.
الثورة مازالت مستمرة فى السودان. يحبس متابعوها أنفاسهم فى قلق، متمنين ألا تنتهى بانكسار وإحباط، وأن ينجح السودانيون الأحرار فى تغيير تفاصيل سيناريو الربيع العربى وينتهى بنجاح ثورتهم، علها تكون بشرة خير.
---------------------
بقلم: هالة فؤاد